رسالة من صلاح الدين
في أواخر القرن الثاني عشر، كانت بلاد الشام في قلب عاصفة لا تهدأ. فالحروب الصليبية أنهكت المدن، وفرضت على الناس واقعًا يشوبه الخوف والترقب، بينما كان اسم صلاح الدين الأيوبي يكتسب مكانته كقائد فذ، يجمع الأمة تحت راية واحدة بعد سنوات من الانقسام.
لكن بين صفحات التاريخ التي نقرأها اليوم، تختبئ قصة نادرة؛ قصة فتى صغير لم يذكره المؤرخون كثيرًا، رغم أنّ دوره كان حاسمًا في تغيير مجرى الأحداث قبيل معركة حطين الشهيرة. هذا الفتى كان يُدعى نضال الدمشقي.
البدايات: صبي يعيش على هامش التاريخ
ولد نضال في أحد أحياء دمشق القديمة، بين الأزقة الضيقة التي تفوح منها رائحة الخشب القديم والتوابل. كان والده يعمل بائعًا للكتب، ويمتلك دكانًا صغيرًا قرب الجامع الأموي. ذلك المكان كان نافذة نضال إلى الحياة؛ فقد تعلّم القراءة مبكرًا، وتعلّق بالخط العربي، وبات ينسخ ما يقع في يده من كتب ومخطوطات، حتى وإن لم يفهم بعضها تمامًا.
كانت دمشق آنذاك مدينة نابضة بالحياة رغم الظروف الصعبة. الأسواق تعج بالناس، والعلماء يتبادلون الحديث في أروقة المساجد، والجنود يتنقلون بين القلاع والحصون. وفي هذا العالم المختلط بين الخوف والأمل، نشأ نضال وهو يحلم أن يصبح كاتبًا كبيرًا.
ومع مرور الوقت، لاحظ أحد الكتّاب الكبار في ديوان القلعة مهارات هذا الفتى. فقد كان يراه يجلس قرب متجر والده ينسخ نصوصًا طويلة بدقة مذهلة. وبعد عدة اختبارات بسيطة، تأكد للكاتب أن الفتى يمتلك ذاكرة قوية وقدرة نادرة على نسخ الحروف دون أخطاء.
كبير الكتّاب والاختبار الأول
في أحد الأيام، تلقى نضال دعوة غير متوقعة إلى قلعة دمشق. كان قلبه يخفق بشدة وهو يصعد درجات الحصن الضخم. استقبله كبير الكتّاب بنفسه، رجل وقور له لحية بيضاء وعينان تلمعان بالذكاء.
قال له الرجل:
"لقد بلغني أنك تحفظ النصوص كما تُكتب، وأنك سريع القراءة والنسخ. هل هذا صحيح يا بني؟"
ابتسم نضال بخجل وأجاب بثقة:
"نعم يا سيدي. لقد اعتدت على نسخ الكتب منذ صغري."
قدّم له كبير الكتّاب رقعة صغيرة كُتبت عليها جملة طويلة بخط دقيق لا تكاد العين تلتقطه. طلب منه أن يقرأها مرة واحدة فقط، ثم يعيد كتابتها من ذاكرته. فعل نضال ذلك ببراعة كاملة، دون أن يخطئ ولو في حرف واحد.
نظر كبير الكتّاب إلى مساعديه وقال:
"هذا الفتى ليس عاديًّا… قد نحتاجه قريبًا."
لم يفهم نضال ما يعنيه الرجل، لكنه شعر بأن حدثًا كبيرًا يقترب.
لقاء لا يُنسى مع صلاح الدين
بعد أيام قليلة، تلقى نضال استدعاءً جديدًا، لكن هذه المرة لم يكن من كبير الكتّاب، بل من السلطان صلاح الدين الأيوبي نفسه.
دخل نضال قاعة كبيرة تُزيّن جدرانها رايات خضراء ومصابيح معلّقة. كان صلاح الدين واقفًا قرب نافذة تطل على المدينة، ينظر إلى الأفق وكأنه يبحث عن شيء بعيد.
التفت السلطان إلى الفتى وقال بلطف:
"تعال يا بني… لقد سمعت عن مهارتك."
تقدم نضال بخطوات مترددة. نظر إلى الرجل الذي طالما سمع عنه، فوجده مختلفًا عن توقعاته. لم يكن صارمًا كما تروي القصص، بل كان هادئًا، صوته مطمئن، وملامحه تجمع بين القوة والرحمة.
قال له صلاح الدين:
"الأيام القادمة تحمل أحداثًا جسيمة، ونحتاج إلى رسل لا يشكّ بهم أحد. أنت صبي صغير، لن يتوقع الأعداء أن تحمل رسالة. ولهذا اخترناك."
سكت لحظة ثم أضاف:
"لكن هذه المهمة خطيرة… وقد تكلفك حياتك."
رغم خوفه، رفع نضال رأسه وقال بثبات:
"سأفعل ما تأمرني به يا مولاي."
ابتسم السلطان وربت على كتفه، ثم أعطاه رقعة صغيرة ملفوفة ومختومة بخاتمه الخاص.
الرسالة السرية
كانت الرسالة موجهة إلى تقيّ الدين عمر، أحد أهم قادة صلاح الدين في حلب. تضمنت معلومات عسكرية دقيقة، تتعلق بتحرّك الجيوش الصليبية وخطة السلطان لتجميع قواته.
كانت تلك المعلومات، إذا وقعت في يد العدو، قد تغيّر مصير الأمة بأكملها.
قال له السلطان محذرًا:
"إياك أن تقع هذه الرسالة في أيدي الغرباء. وإن اضطررت، فمزّقها أو ابتلعها. الأمانة التي تحملها أغلى من حياتك."
وضع نضال الرسالة داخل حزام جلدي تحت ثيابه، وشعر بثقلها رغم صغر حجمها.
الرحلة الخطرة إلى حلب
خرج نضال من دمشق فجرًا، والهواء البارد يلسع وجهه. قطع سهول الغوطة، وسار يومًا كاملًا دون أن يستريح. كان يدرك أن كل دقيقة لها ثمن.
مع مرور الأيام، ازداد الخطر. فقد كثّفت القوات الصليبية وجودها بين حمص وحماة، وكانت تفتّش العابرين بحثًا عن رسائل أو جنود متنكرين.
وفي إحدى الليالي، وبينما كان يمر عبر غابة كثيفة، سمع حوافر خيل تقترب بسرعة. اختبأ بين جذع شجرة ضخمة، وهو يحبس أنفاسه.
كان الفرسان الصليبيون يمرون على بعد خطوات منه، يتحدثون بلغتهم بصوت مرتفع. كاد أحدهم أن يلمح حركته، لكن قطعة خشب سقطت من أعلى الشجرة، فشغلتهم عن البحث.
وبينما يتضاءل صوتهم مع ابتعادهم، شعر نضال بأن قلبه عاد ينبض من جديد.
تابع رحلته بصعوبة، بعد أن اضطر إلى تفادي الطرق الرئيسية. كان ينام في العراء، ويقتات على ما يجده من خبز يابس أو ثمار شجر.
لكن رغم التعب والجوع، كان يشعر بقوة تدفعه للاستمرار. فصلاح الدين وثق به… ووطنه ينتظر هذه الرسالة.
الوصول إلى حلب
بعد سبعة أيام من السير المتواصل، ظهر سور مدينة حلب العظيم أمامه.
دخل المدينة وهو شبه منهك، وسأل عن مقر القائد تقي الدين عمر. وعندما وصل، لم يتمكن من الوقوف دون مساعدة.
استقبله رجال القائد ونقلوه إلى الداخل. وعندما علم القائد بشأنه، جاء مسرعًا.
قال نضال بصوت ضعيف:
"معي رسالة من مولاي صلاح الدين…"
سلم الرسالة للقائد الذي فتحها بعناية شديدة بعد التأكد من الختم. قرأها بصمت لعدة دقائق، ثم وضعها جانبًا وقال:
"لقد وصلت في الوقت المناسب يا بني… لم يبقَ إلا خطوة واحدة."
كانت الرسالة تحمل أوامر عاجلة بتجهيز قوات حلب واللحاق بجيش صلاح الدين في الجنوب، وهو ما ساهم لاحقًا في توحيد الجيوش الإسلامية قبل معركة حطين.
العودة إلى دمشق
بعد أيام من الراحة، ركب نضال مع قافلة متجهة جنوبًا. وعندما عاد إلى دمشق، استقبله كبير الكتّاب الذي أخبره بأن السلطان يريد رؤيته فورًا.
دخل نضال على صلاح الدين مرة أخرى، لكنه هذه المرة دخل بثقة مختلفة.
وقف السلطان وقال له بابتسامة واسعة:
"أحسنت… لقد أديت الأمانة كما ينبغي. لولا شجاعتك، لتأخر وصولنا إلى النصر."
ثم أمر بضمه إلى ديوان كتّاب السلطنة، ليصبح أصغر كاتب رسمي في ذلك العصر.
ما بعد القصة: أثر لا يٌنسى
مرت أعوام، وكبر نضال وأصبح من أهم كتّاب الرسائل السرية في الدولة الأيوبية.
عاصر النصر العظيم في معركة حطين وتحرير القدس، وشهد بدايات الاستقرار الذي أعقب تلك الانتصارات.
لم يُكتب اسمه في أغلب كتب التاريخ، لكنه بقي حاضرًا في ذاكرة القلعة وسجلات الكتّاب.
وهذه القصة التي رواها بعض المؤرخين لاحقًا، تذكرنا بأن الأبطال ليسوا دائمًا فرسانًا يحملون السيوف، بل قد يكونون فتيانًا يحملون رسالة تغيّر مسار أمة.