أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

اخر التدوينات

الجزء الثانى(المنزل الذى يبتلع الأصوات)

صدى المرآة

يمكنك قراءة الجزء الاول من هنا


لم ينسَ الملازم سامر ذلك التقرير الليلي عن صراخ امرأة في المنزل رقم 7. كان المنزل مشهوراً بسمعته السيئة، لكن سامر لم يكن يؤمن بالخرافات. ومع ذلك، شيئاً واحداً أرّقه:
المرآة… كانت تبدو كأنها تراقبه عندما نظر إليها تلك الليلة.

عاد صباح اليوم التالي إلى المنزل نفسه، ليس كشرطي، بل كرجل يريد أن يفهم. الشمس لم تخفّف شيئاً من رهبة المكان، بل جعلت غبار الردهة يبدو كأنّه يتحرك بحرية، كأرواح تتنقّل من زاوية لأخرى.

دخل سامر، وبينما كان يسير ببطء، لاحظ أمراً غريباً:
لا يسمع وقع خطواته.

توقف. ركّز.
لا شيء… فقط صمت كثيف، حيّ، وكأنه كائن يراقب من كل اتجاه.

اتّجه نحو المرآة الطويلة في وسط الردهة. كل شيء حولها كان بارداً، كأن الهواء يهرب منها. اقترب خطوة… ثم أخرى. وفي اللحظة التي أصبح فيها أمامها مباشرة، لمح شيئاً جعله يحدق دون رمشة:

كانت هناك امرأة خلف زجاج المرآة.
شعرها مبعثر، وعيونها متّسعة، وشفتاها تتحركان محاولة قول شيء ما، لكن دون صوت.

رفع سامر حاجبيه بذهول.
— "ليلى…؟"

كان قد رأى صورتها في بلاغ مفقودة ذلك الصباح.
المرأة في المرآة أومأت برأسها بسرعة، وكأنها تستنجد.

مد يده ولمس سطح المرآة…
لكن ما لم يكن يتوقعه حدث:

سطح المرآة كان دافئاً، نابضاً، مثل صدر كائن حي.

تراجع مذعوراً.
وفجأة تحولت ملامح المرأة، وصار فمها يتشوّه، ويُفتح ببطء كأنها تصرخ صرخة مكتومة.

ثم ظهر خلفها الظلّ الأسود ذاته… طويل، بلا ملامح، كأنه هيكل من دخان.

رفع الظلّ يده وأمسك رأس ليلى من الخلف، ثم جذبها إلى الظلام. اختفت وهي تمد يدها نحو سامر، قبل أن يغلق الظلّ قبضته على الزجاج.

المرآة عادت هادئة… لكنها لم تعد تعكس صورة سامر.
بل عكست ردهة المنزل فارغة تماماً… كأنّه ليس موجوداً.

ارتفع صوت خافت في الغرفة، لا يشبه الهامس، بل يشبه صوتاً يمر عبر الماء:

"لا تردّد الصوت… سيأتي."

أحس سامر بقشعريرة تمتد إلى عموده الفقري.
من قال ذلك؟
ومن "سيأتي"؟

التفت حوله، فلاحظ باباً لم ينتبه له من قبل، نصف مفتوح، خلف المرآة مباشرة. دفعه ببطء فظهر ممر ضيق، لا يدخله ضوء، ورائحة رطوبة تعليق في الجو.

الممر يقود إلى قبو.

نزل ببطء، ممسكاً مصباحاً صغيراً.
كل خطوة يخطوها كان يشعر بها في جسده… لكنه لا يسمعها.
حتى نبض قلبه لم يعد يسمعه، لكنه يشعر به قويّاً يدق صدره بعنف.

في آخر القبو، وجد غرفة صغيرة جدرانها مغطاة بمرايا صغيرة متكسّرة، وفي الوسط دفتر أسود. رفعه وفتحه:


اليوم الخامس:
الأصوات تختفي. كل شيء هنا يُمحى.
المنزل لا يسمح بالضجيج… المنزل يتغذّى على الصوت.

اليوم السابع:
الظلّ ظهر. يخبرني ألا أتحدث. يقول إن الصوت يجلب شيئاً آخر… شيئاً أكبر منه.

اليوم العاشر:
أخبرني أن المرآة ليست باباً… بل فماً.

اليوم الأخير:
إن اختفيت، فاعلموا أن المنزل جائع.

تجمدت أطراف سامر.
من كتب هذا؟
وأين اختفى؟

ارتفع فجأة من خلفه صوت تنفّس بطيء… لكنه لم يكن صدى…
كان تنفّس شيء يقف خلف ظهره مباشرة.

التفت بحدة، وسلّط ضوء المصباح…
فوجد الظلّ الأسود يقف على بعد خطوة واحدة، بلا وجه، بلا عيون، بلا صوت.

رفع الظلّ يده ببطء، وأشار إلى فم سامر…
ثم صدر منه صوت منخفض كالرعد المكتوم:

"لا… تتكلّم."

لكن سامر، رغم كل الخوف، سأل بصوت مرتجف:

— "أين ليلى؟!"

في اللحظة التي نطق فيها…
ارتجّ البيت كله.

الظلال على الجدران بدأت تتحرك بسرعة، والمرايا تهتز، والهواء يختفي.

الظلّ الأسود تراجع خطوة، وقال بصوت أوضح:

"لقد… أتيته…"

— "من؟! من أتيت؟!"

لم يعد هناك مجال للصمت.

فوق رأسيهما تماماً…
انفتح سقف القبو، وظهر فراغ أسود يدور كدوامة، يخرج منه آلاف الأصوات المبتلعة عبر السنين، كلها تصرخ دفعة واحدة.

كانت تلك هي النسخة الحقيقية من المنزل…
المخلوق الذي يعيش على الصمت… ويقتل بالصوت.

رفع الظلّ رأسه نحو الدوامة، ثم قال لسامر:

"اركض… إن استطعت."
يتبع فى الجزء الثالث....
تعليقات