في عمق التاريخ، قبل عشرات الآلاف من السنين، حين لم تكن المدن قد وُجدت بعد، ولم تُرسم الحدود، ولم تُكتب الكتب، كان الإنسان يعيش في عالمٍ مختلف تمامًا؛ عالمٍ لا يعرف سوى صوت الريح، ووهج النار، وحكايات الصخور. في هذا الزمن البعيد، وُلِدت قصة “راغ”، أحد أفراد قبيلة صغيرة عاشت في قلب العصر الحجري.
كانت القبيلة تقيم بالقرب من نهرٍ عظيم يجري كالأفعى بين الجبال. اعتمد أفرادها على الصيد وجمع الثمار، وكانت حياتهم بسيطة لكنها قاسية، لأن الطبيعة لا ترحم الضعفاء. أما راغ فكان فتىً قويّ البنية، سريع الحركة، دقيق الملاحظة، يتمتع بشجاعة نادرة رغم صغر سنه. كان يحلم دائمًا بأن يصبح قائدًا عظيمًا لقومه، لكن الطريق نحو ذلك كان مليئًا بالتحديات التي لا بد أن يخوضها.
الفصل الأول: نذير الفجر
في إحدى الليالي الباردة، اجتمع أفراد القبيلة حول النار، يحتمون بدفئها ويستمعون إلى “شامار”، كبير القوم وحكيمهم. قال شامار بصوتٍ عميق:
“لقد تغيّر النهر يا أبناء القبيلة. السمك أصبح قليلًا، وصوت الحيوانات غاب عن الغابة. هناك خطرٌ يقترب.”
ساد الصمت بين الجميع، ثم نظر شامار إلى راغ مباشرةً وقال:
“أشعر أن روح الصخور اختارتك. غدًا، ستخرج مع مجموعة الصيادين لاستكشاف الجبل الأحمر.”
تفاجأ راغ، لكنه لم يتردد. عرف أن هذه المهمة قد تغيّر مصيره.
الفصل الثاني: الجبل الأحمر
عند انبثاق خيوط الشمس الأولى، انطلقت مجموعة مكونة من خمسة رجال منهم راغ. كان الطريق شاقًا؛ فالأرض وعرة، والغابات كثيفة، والهواء محمّل بروائح غريبة. ومع ذلك، كان رغ يستمد شجاعته من كلمات شامار.
بعد ساعات من السير، ظهر لهم الجبل الأحمر، شامخًا بلون جذاب توحي طبقاته بأنه يحمل أسرارًا دفينة. وبين صخوره، سمع الرجال أصواتًا غريبة؛ حفيفًا متقطّعًا يشبه خطى حيوان ضخم.
قال أحد الصيادين بخوف:
“هذا ليس صوت غزال ولا حتى دبّ. شيء أكبر بكثير.”
اقترب راغ من مدخل كهف مظلم عند سفح الجبل، وأشار للرجال بالصمت. دخل بحذر، وكان قلبه ينبض بشدة. في الداخل، رأى آثار أقدام ضخمة لم يسبق لهم أن رأوها. ولم يكد يقترب أكثر حتى شعر بأنفاس ساخنة خلفه.
التفت بسرعة… فإذا به أمام حيوانٍ عملاق مغطى بالشعر، ذا أنياب طويلة ومنتصبة: الماموث.
لم يكن راغ قد رأى شيئًا ضخمًا بهذه الهيبة من قبل، لكنه تذكّر أن الماموث يمكن أن يكون صديقًا إن لم يشعر بالخطر. انسحب ببطء، وتراجع الحيوان أيضًا دون هجوم. لكن المشكلة لم تكن الماموث، بل شيء آخر لاحظه الرجال لاحقًا…
كانت هناك علامات حروق على الصخور، ورائحة دخان قوية، وكأن شيئًا أحرق جزءًا من الجبل.
الفصل الثالث: سر النار الجديدة
عاد الرجال إلى القبيلة حاملين معهم الأنباء. قال راغ بصوتٍ ثابت:
“هناك شيء يظهر بالقرب من الجبل. شيء لا يشبه الحيوانات. النار التي رأيناها ليست ناتجة عن البرق.”
أجاب شامار بتفكير عميق:
“هناك قبيلة أخرى تهيم في هذه الأرض. أخشى أن تكون قد اقتربت منا.”
في العصر الحجري، كانت القبائل تتحارب أحيانًا بسبب الصيد أو الأرض. ونادرًا ما تُظهر الرحمة. أدرك راغ أن خطرًا أكبر يهددهم.
وفي تلك الليلة، بينما الجميع نائمون، جلس راغ وحيدًا على صخرة قرب النهر يتأمل القمر. كان يشعر أن عليه القيام بشيء أكبر من مجرد الصيد. أراد أن يفهم من هي القبيلة الأخرى، وما الذي تريده.
وقبل أن يطلع الفجر، قرر الانطلاق وحده.
الفصل الرابع: قبيلة الظلال
تسلل راغ إلى الغابة واتبع آثارًا صغيرة كان قد لاحظها أثناء الرحلة السابقة. أدرك لاحقًا أنها آثار أقدام بشرية. وبعد مسيرة طويلة، رأى نارًا مشتعلة بين الأشجار. اقترب بحذر، واختبأ خلف صخرة كبيرة.
كانت هناك مجموعة من الرجال ذوي أجساد نحيلة وقوية، يغطون وجوههم بالرماد الأسود. بدوا كظلٍّ حي؛ لا يصدرون صوتًا تقريبًا. كانوا يحدقون في خرائط بدائية محفورة على قطعة من الجلد، ويشيرون إلى نهر قبيلة راغ.
قال أحدهم:
“غدًا نأخذ الصيد منهم. هذه الأرض أصبحت ملكنا.”
تجمّد راغ. كان يعلم أن هذه القبيلة خطيرة للغاية، وأنها تخطط للهجوم. ولم يكن أمامه إلا أن يعود قبيل أن يكتشفه أحد.
لكن بينما كان ينسحب… انكسر غصن تحت قدمه.
التفت الرجال بسرعة، وبدأوا المطاردة.
الفصل الخامس: مطاردة في قلب الغابة
ركض راغ بكل قوته، يتفادى الأشجار ويقفز فوق الصخور. كان يسمع صرخات رجال الظلال خلفه، تقترب أكثر فأكثر. لكنه لم يكن ليُهزم بهذه السهولة.
وقفز راغ إلى مجرى صغير وأخفى أثر قدميه بالماء، ثم صعد على جذع شجرة طويلة واختبأ بين أغصانها. مرّت القبيلة من تحته ولم تره.
وبعد ساعات من الانتظار، عاد راغ إلى قبيلته منهكًا لكنه حيّ… والأهم: يحمل خبرًا قد ينقذ الجميع.
الفصل السادس: معركة الجبل والنهر
اجتمع شامار مع رجال القبيلة، وروى لهم راغ كل ما رآه. قال شامار:
“لن نترك أرضنا. لكننا أيضًا لن نهاجم أولًا. سننتظرهم، ونستخدم الأرض لصالحنا.”
وضعت القبيلة خطة ذكية تعتمد على تضاريس الجبل والنهر. حفروا حفرًا صغيرة، وجهّزوا صخورًا ضخمة على المرتفعات، ورتبوا مجموعات مراقبة.
وعند شروق الشمس في اليوم التالي، ظهرت قبيلة الظلال.
كانت المواجهة حتمية.
انطلقت صيحات الحرب، وبدأت المعركة. استخدم رجال قبيلة راغ الصخور لإسقاط الأعداء، بينما هاجم الصيادون من الخلف. وراغ كان في المقدمة، يتحرك بخفة فريدة وكأنه جزء من الغابة نفسها.
وفي لحظة فارقة، واجه قائد قبيلة الظلال راغ. كان عملاقًا يحمل رمحًا من العظم. لكن راغ بثباته وخفته استطاع أن يوقعه أرضًا بعد مواجهة عنيفة.
ومع سقوط قائدهم، انسحبت القبيلة المهاجمة بعيدًا.
لقد انتصرت قبيلة راغ.
الفصل السابع: عهد جديد
بعد المعركة، وقف شامار أمام القبيلة وقال بفخر:
“اليوم أثبت راغ شجاعة لا يملكها إلا القائد الحكيم. لقد أنقذ أرضنا، وحمى أبناءنا. من هذا اليوم… سيكون راغ قائد الصيادين، وسلطان الجبل والنهر.”
هلّل الجميع، بينما كان راغ يشعر بأن رحلته بدأت للتو. فقد عرف أن القوة ليست في العضلات، بل في العقل والجرأة والحكمة.
وفي تلك الليلة، جلس راغ أمام النهر نفسه الذي بدأ عنده حلمه. نظر إلى الماء المتلألئ تحت ضوء القمر، وشعر أن المستقبل يحمل الكثير.
فالعصر الحجري، رغم قسوته، كان بداية كل شيء… بداية الإنسان وقدرته على البقاء والتطور والتعلّم.
وهكذا، أصبحت قصة راغ أسطورة تتناقلها الأجيال في قبيلته، رمزًا للشجاعة، والحكمة، والصراع من أجل الحياة.