أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

اخر التدوينات

كنز العلماء (الجزء الثانى من طلال الاندلس)

الجزء الثاني: كنز العلماء

فى الجزء السابق تحدثنا عن ستة فصول تشمل الحديث عن ظلال الاندلس

وفى هذا المقال سنكمل باقى القصه.




الفصل السادس: القاعة المخفية

عندما انفتح الباب بالكامل، انبهر يوسف وليلى بما رأياه. كانت أمامهما قاعة واسعة، أشبه بقبو محفور في أعماق الأرض، لكنه مبني بإتقان مذهل. القبة العالية مزينة بنقوش هندسية معقدة، والجدران مغطاة بالبلاط الأندلسي الملون الذي يعكس ضوء المشاعل بألوان بديعة.

لكن ما أخذ أنفاسهما حقاً لم يكن جمال المكان، بل ما كان بداخله.

في وسط القاعة، كانت هناك منصة رخامية دائرية، وحولها صفوف من الرفوف الخشبية المحفوظة بعناية، تمتد حتى نهاية القاعة. وفوق تلك الرفوف، كانت هناك مئات، بل آلاف من المخطوطات الملفوفة، والكتب المجلدة، محفوظة في صناديق خشبية وأكياس جلدية.

"يا إلهي..."، همست ليلى، وعيناها تجولان في أرجاء المكان بذهول.

اقترب يوسف من أقرب رف بخطوات مرتجفة. أمسك بإحدى المخطوطات بحذر، كأنه يحمل كنزاً هشاً. فتحها بعناية، فإذا بها مخطوطة طبية نادرة، عليها ختم "أبو القاسم الزهراوي"، أعظم جراح عرفه التاريخ.

"هذا... هذا من تأليف الزهراوي نفسه!"، قال بصوت يرتجف من الانفعال. "مخطوطة أصلية من 'التصريف لمن عجز عن التأليف'!"

انتقل إلى رف آخر، فوجد كتباً في الفلك لابن رشد، ومخطوطات رياضية للخوارزمي، وأعمالاً فلسفية لابن سينا، وكتباً في الكيمياء لجابر بن حيان.

التفتت ليلى إلى المنصة الرخامية في الوسط. كان عليها صندوق ذهبي مطعم بالأحجار الكريمة، وبجانبه لوح حجري منقوش.

"يوسف، تعال انظر إلى هذا!"

اقترب يوسف، وقرأ النقش على اللوح:

"بسم الله الرحمن الرحيم في عام 366 للهجرة أمر الحكم المستنصر بالله، أمير المؤمنين بحفظ هذه المخطوطات في مكان آمن لتكون إرثاً للأجيال القادمة يوم تشتد الخطوب وتعصف الفتن ليعلم من يصل إلى هنا أن العلم نور لا ينطفئ وأن المعرفة كنز لا يفنى"

شعر يوسف بدمعة تنزلق على خده. هنا أمامه، كان تراث قرون من العلم والمعرفة، محفوظاً بأمانة عبر الأجيال.

"علينا أن ننقذ هذا كله"، قال بحزم. "لا يمكن أن ندع هذا الكنز يضيع."

لكن ليلى نظرت حولها بقلق.

"لكن كيف؟ هناك الآلاف من المخطوطات هنا. لن نستطيع حملها كلها. وحتى لو استطعنا، إلى أين سنأخذها؟ المدينة محاصرة."


الفصل السابع: الخيانة تكشف عن وجهها

فجأة، سمعا صوتاً يأتي من خلفهما.

"هذا سؤال وجيه فعلاً."

استدارا بذعر، ليجدا رجلاً يقف عند مدخل القاعة. كان في الخمسينات من عمره، يرتدي عباءة سوداء، وعلى وجهه ندبة طويلة تمتد من حاجبه الأيسر إلى ذقنه.

"من أنت؟" صاح يوسف، واقفاً أمام ليلى في حركة حماية غريزية.

ابتسم الرجل ابتسامة باردة.

"اسمي رودريغو دي مونتيس. كنت في الأصل تاجراً من طليطلة، لكنني الآن أعمل... لنقل مستشاراً خاصاً للملك فرناندو."

اتسعت عينا يوسف رعباً.

"جاسوس!"

"لا تكن قاسياً في وصفك يا فتى. أنا مجرد رجل أعمال يبحث عن الفرص. وهذه"، أشار إلى المخطوطات حوله، "فرصة لا تعوض."

اقترب رودريغو ببطء، عيناه تتأملان الكنز بطمع واضح.

"هل تعلم كم ستدفع الجامعات الأوروبية مقابل هذه المخطوطات؟ ثروة لا تُحصى. بعض هذه الكتب لا يملك المسيحيون ما يماثلها. العلوم التي فيها ستجعلني أغنى رجل في أوروبا."

"لن ندعك تسرق تراثنا!"، صرخ يوسف بغضب.

ضحك رودريغو.

"ولماذا تعتقد أنك تستطيع إيقافي؟ أنا الذي قادني إلى هنا عملائي في قرطبة، الذين يراقبونك أنت وأباك منذ أسابيع. كنت أعلم أن عمر الخطاط يحمل سراً ما، وها قد أكدتم حدسي."

في تلك اللحظة، ظهر ثلاثة رجال آخرين خلف رودريغو، كلهم مسلحون بالسيوف.

"الآن"، قال رودريغو ببرود، "ستساعدونني في نقل هذه المخطوطات. أم أنكم تفضلون أن أتركك هنا للأبد؟"

نظر يوسف حوله بيأس. كانوا محاصرين، لا مهرب.


الفصل الثامن: الحيلة الذكية

لكن ليلى لم تكن من النوع الذي يستسلم بسهولة. همست ليوسف بصوت لا يكاد يُسمع:

"الصندوق الذهبي. افتحه."

نظر إليها يوسف بحيرة، لكنه وثق بها. بينما كان رودريغو ورجاله ينشغلون بفحص المخطوطات، تحرك يوسف بهدوء نحو المنصة.

فتح الصندوق الذهبي بحذر. بداخله، وجد قارورة زجاجية صغيرة، بها سائل أحمر غامق، وبجانبها رسالة مطوية.

فتح الرسالة وقرأ بسرعة:

"إلى من يصل إلى هذا المكان بنية صادقة: إذا حاول أحد سرقة هذا الكنز لأطماع دنيوية فاستخدم ما في القارورة إنه مزيج من الكبريت والنترات والفحم يشتعل بسرعة ويملأ المكان بالدخان لكن احذر، فهو خطر لا تستخدمه إلا عند الضرورة القصوى"

فهم يوسف. كان هذا نوعاً بدائياً من البارود! عرفه العرب قبل أوروبا بقرون.

أخفى القارورة في عباءته، ثم التفت إلى رودريغو.

"حسناً، سنساعدك. لكن بشرط واحد."

رفع رودريغو حاجبه.

"وما هو؟"

"أن تترك المدينة بعض الوقت. الحامية تراقب كل الطرق. إذا شاهدوك تحمل شيئاً مشبوهاً، سيقبضون عليك."

فكر رودريغو للحظة، ثم أومأ.

"منطقي. سننتظر حتى الليل. الآن، ابدأ بجمع أثمن المخطوطات."

أخذ يوسف وليلى يتحركان بين الرفوف، يجمعان المخطوطات. لكن يوسف كان يخطط لشيء آخر.

همس لليلى: "عندما أعطيك الإشارة، اركضي نحو الممر. لا تتوقفي مهما حدث."

"ماذا ستفعل؟"

"فقط ثقي بي."


الفصل التاسع: الهروب الخطير

انتظر يوسف حتى اقترب رودريغو ورجاله من أحد الرفوف البعيدة، منشغلين بفحص مخطوطات نادرة. في تلك اللحظة، أخرج القارورة وفتحها.

كان يعلم من دراساته مع أبيه أن هذا المزيج يحتاج إلى شرارة ليشتعل. أخذ حجرين من الأرض، وبحركة سريعة ضربهما ببعضهما بالقرب من فوهة القارورة.

انطلقت شرارة صغيرة، أشعلت السائل فوراً. رمى يوسف القارورة نحو الأرض بين الرفوف، بعيداً عن المخطوطات الثمينة.

انفجر السائل بصوت مدوٍ، وارتفعت سحابة كثيفة من الدخان الأبيض، ملأت القاعة في ثوانٍ. بدأ رودريغو ورجاله يسعلون ويصرخون في الارتباك.

"الآن! اركضي!"، صاح يوسف.

انطلق هو وليلى نحو المخرج، والدخان يحجب كل شيء خلفهما. سمعا رودريغو يصرخ بغضب:

"احصروا المخارج! لا تدعوهم يهربون!"

لكنهما كانا قد وصلا بالفعل إلى الممر. ركضا بأقصى سرعة، صاعدين الدرج الحجري، قلوبهما تدق بعنف.

خلفهما، كانت أصوات الخطوات الثقيلة تلاحقهما. كان رجال رودريغو يطاردونهما في الظلام.

"يجب أن نغلق الممر خلفنا!"، قالت ليلى وهي تلهث.

"لكن كيف؟"

وصلا إلى الغرفة ذات الأحجية الرقمية. نظر يوسف حوله بسرعة، ثم لاحظ شيئاً. على أحد الجدران، كان هناك رافعة حجرية صغيرة، مخفية في الظل.

"ساعديني!"

معاً، سحبا الرافعة بكل قوتهما. سمعا صوت طحن حجري مدوٍ، ثم بدأ سقف الممر خلفهما ينهار تدريجياً، مغلقاً الطريق.

صرخات رجال رودريغو ارتفعت خلفهما، لكن الصخور استمرت في السقوط حتى أغلقت الممر بالكامل.


الفصل العاشر: القرار الصعب

خرج يوسف وليلى أخيراً إلى صحن المسجد، حيث كانت شمس الظهيرة تشرق. وقفا يلتقطان أنفاسهما، منهكين لكن آمنين.

"نجونا"، قالت ليلى بارتياح.

لكن يوسف لم يكن مرتاحاً. نظر إلى الأرض بحزن.

"نعم، لكننا تركنا الكنز خلفنا. كل تلك المخطوطات النادرة، محاصرة الآن تحت الأنقاض."

وضعت ليلى يدها على كتفه.

"لكننا أنقذناها من السرقة. رودريغو لن يستطيع الوصول إليها الآن."

"لكن لا أحد سيستطيع!"، قال يوسف بمرارة. "أنا لم أنقذ الكنز، بل دفنته للأبد."

في تلك اللحظة، سمعا صوتاً عميقاً خلفهما.

"ليس للأبد يا بني."

استدارا، فوجدا الشيخ عمر واقفاً هناك، ومعه رجل آخر، عجوز ذو لحية بيضاء طويلة، يرتدي عمامة خضراء.

"أبي! كيف عرفت أننا هنا؟"

ابتسم الشيخ عمر.

"حين اختفيتما هذا الصباح، عرفت أنكما ذهبتما في رحلة البحث. هذا هو الشيخ إبراهيم بن موسى، آخر أمناء المكتبة القديمة."

انحنى الشيخ إبراهيم باحترام.

"لقد سمعت بما فعلتماه من حراس المسجد. أنتما شابان شجاعان. وما قمت به يا يوسف كان الصواب."

"لكنني دفنت المخطوطات تحت الأنقاض!"

"لا يا بني"، قال الشيخ إبراهيم بصوت حكيم. "أنت حفظتها. تلك القاعة بُنيت لتصمد آلاف السنين. والمخطوطات محفوظة في ظروف تبقيها سليمة لقرون قادمة. ربما لن نرى ذلك الكنز مرة أخرى في حياتنا، لكن الأجيال القادمة، حين تأتي أزمنة أكثر سلاماً واستقراراً، سيعيدون فتح تلك القاعة ويستفيدون من علمها."

نظر يوسف إلى المسجد العظيم، وفهم أخيراً.

"إذن لم أفشل؟"

"بل نجحت"، قال الشيخ عمر بفخر. "حفظت التراث من اللصوص، ومن الضياع. هذا هو واجبنا نحن، أن ننقل المعرفة للأجيال القادمة، حتى لو لم نرَ نتيجة ذلك بأعيننا."


الفصل الحادي عشر: الوداع الأخير

في ذلك المساء، جلست العائلة في بيت الشيخ عمر. كانت الأجواء ثقيلة، فأنباء سقوط المدينة باتت وشيكة. الملك فرناندو أعطى أهل قرطبة أياماً قليلة للاستسلام، وإلا سيقتحم المدينة بالقوة.

"يجب أن نغادر"، قال الشيخ عمر بحزم. "غداً عند الفجر، سنترك قرطبة ونتجه جنوباً إلى غرناطة. لا يزال بنو نصر يحكمون هناك، وسنكون آمنين."

"لكن هذا بيتنا"، قالت ليلى بحزن. "كيف نتركه؟"

"البيت حجارة وجدران"، رد الشيخ عمر. "لكن العلم والمعرفة في عقولنا وقلوبنا. هذا هو الكنز الحقيقي الذي نحمله معنا."

نظر يوسف عبر النافذة إلى معالم قرطبة التي أحبها. المسجد الجامع بمئذنته الشامخة، والأزقة الضيقة المليئة بالذكريات، والبيوت ذات الأفنية الجميلة.

"سنعود يوماً ما؟"، سأل بصوت حزين.

صمت الشيخ عمر طويلاً، ثم قال:

"ربما لا نعود نحن يا بني. لكن أحفادنا، أو أحفاد أحفادنا، سيعودون. وحين يعودون، سيجدون ذلك الكنز المدفون ينتظرهم، ليذكرهم بأن أجدادهم كانوا أهل علم وحكمة."

في تلك الليلة، جمع يوسف أهم مخطوطات أبيه الشخصية، ووضعها في حقيبة جلدية. وقبل أن ينام، كتب رسالة على قطعة من الرق، دوّن فيها قصة الكنز المخفي، وموقعه التقريبي تحت المسجد الجامع.

"للأجيال القادمة"، كتب في نهاية الرسالة، "لا تنسوا أن العلم نور لا ينطفئ، وأن المعرفة إرث لجميع البشرية. احفظوا هذا الكنز، واجعلوه في خدمة الإنسانية جمعاء."

أخفى الرسالة في مخطوطة أبيه الخاصة، التي أقسم أن يحفظها طوال حياته.


الفصل الثاني عشر: فجر جديد

عند الفجر، غادرت عائلة يوسف قرطبة مع مئات العائلات الأخرى. كانوا يحملون ما خف من متاعهم، تاركين خلفهم مدينة أحبوها.

وقف يوسف على تل مرتفع، ينظر للمرة الأخيرة إلى المدينة. رأى مئذنة المسجد تلمع تحت أشعة الشمس الأولى، وتذكر القاعة السرية التي تحتها، والكنز العظيم المحفوظ في الظلام.

"سنلتقي مرة أخرى"، همس. "وإن لم يكن في حياتي، ففي حياة من سيأتون بعدي."

وضعت ليلى يدها في يده، وابتسمت رغم الدموع في عينيها.

"لقد فعلنا ما يجب يا يوسف. أنقذنا الأهم. أنقذنا العلم."

سار الموكب جنوباً، نحو غرناطة، نحو مستقبل مجهول. لكن يوسف كان يحمل في قلبه أملاً. أملاً بأن ما فعلوه لن يذهب سدى، وأن العلم الذي حفظوه سيعود يوماً ليضيء الطريق للأجيال القادمة.

وبينما كانوا يبتعدون عن قرطبة، لم يروا الرجل الذي كان يراقبهم من بعيد. كان رودريغو دي مونتيس واقفاً على تل آخر، وجهه يحمل خليطاً من الغضب والإحباط.

"فاتني الكنز هذه المرة"، تمتم لنفسه. "لكن الحرب لم تنته بعد. الأندلس كلها ستسقط يوماً، وحينها سأجد كنوزاً أخرى."

استدار ورحل، تاركاً قرطبة خلفه.

لكن ما لم يعرفه أحد، أن قصة الكنز المخفي ستبقى حية في الذاكرة الجماعية، تتناقلها الأجيال همساً، حتى يأتي اليوم الذي يُكتشف فيه السر مرة أخرى.


خاتمة الجزء الثاني

مرت السنون، وسقطت قرطبة فعلاً في يد الملك فرناندو. تحول المسجد الجامع إلى كاتدرائية، لكن بنيانه الأصلي بقي قائماً، شامخاً، يحمل في أعماقه سراً لا يعرفه أحد.

عاش يوسف بقية حياته في غرناطة، حيث عمل خطاطاً مثل أبيه، ونقل المخطوطات التي حملها معه إلى مكتبات جديدة. تزوج من ليلى، وأنجبا أطفالاً علّموهم حب العلم والمعرفة.

وقبل أن يموت الشيخ يوسف في شيخوخته، سلّم المخطوطة التي تحتوي على سر الكنز إلى حفيده الأكبر، وأوصاه:

"احفظ هذا السر، ولا تكشفه إلا لمن تثق به من أبنائك. يوماً ما، حين تستقر الأمور وتعود الحكمة إلى الناس، سيأتي من يفتح ذلك الباب من جديد، ويعيد الكنز إلى النور."

وهكذا بقي السر محفوظاً عبر الأجيال، ينتظر يومه…


يتبع في الجزء الثالث: "بعد قرون"


حقائق تاريخية إضافية

  • سقوط قرطبة 1236م: استسلمت المدينة للملك فرناندو الثالث بعد حصار دام عدة أشهر، وهاجر معظم سكانها المسلمين جنوباً.
  • المسجد الجامع: حُوّل إلى كاتدرائية لكن معماره الإسلامي بقي محفوظاً إلى اليوم، وهو أحد أهم المعالم التاريخية في إسبانيا.
  • الهجرة إلى غرناطة: استقبلت غرناطة آلاف اللاجئين من المدن الأندلسية التي سقطت، وبقيت آخر معاقل المسلمين حتى عام 1492م.
  • البارود: عرف العرب البارود قبل الأوروبيين بقرون، واستخدموه في أغراض عسكرية ومدنية.
  • المخطوطات الأندلسية: الكثير منها نُقل إلى المغرب ومصر وبلاد الشام، وبعضها بقي مخفياً في إسبانيا ليكتشف بعد قرون.

تعليقات