حكاية الإنسان الأول بين الحقيقة والغياب
في تلك القبيلة وُلد "ريان"… فتى مختلف منذ طفولته. لم يكن أقوى شباب القبيلة، ولا أكثرهم جرأة، لكنه كان الأذكى والأكثر فضولًا. كان يقضي ساعات طويلة في مراقبة النجوم، ورسم خطوط غريبة على الأرض، والبحث عن معاني الرياح ومواضع القمر. كان شيخ القبيلة يقول دائمًا:
"هذا الصبي يرى ما لا نرى… وكأن أرواح الأسلاف تهمس في أذنه."
البداية… ليلة الزلزال العظيم
في إحدى الليالي، بينما كان القمر مكتملًا بلون أحمر قاتم، اهتزّت الأرض تحت أقدام القبيلة. ارتجفت الأشجار، وسقطت الصخور من قمم الجبال، وارتفع دخانٌ أسود من كهف يُطل على النهر. صرخ الناس مذعورين، بينما ركضت الحيوانات نحو الغابة.
اقترب ريان من الكهف، رغم خوف الكبار، وشاهد داخل الظلام نورًا غريبًا يشبه شرارة نار لا تنطفئ. كان الضوء يخفق كما لو أنه قلب ينبض، وكان يصدر عنه صوت أقرب إلى الهمس:
"اقترب… اقترب…"
ظنّ الجميع أن الكهف قد أمسكته الأرواح الغاضبة، وقرر شيخ القبيلة إغلاقه بالحجارة. لكن ريان شعر بأن الهمس يملك معنى آخر… رسالة تنتظره.
الرسالة المفقودة… ونبوءة الأسلاف
في تلك الليلة جاء شيخ القبيلة إلى ريان وهو يحمل عصاه القديمة المصنوعة من عظام الماموث، وقال له:
"رأيت رؤيا… النار التي ظهرت في الكهف ليست نارًا، بل معرفة. أحد الأسلاف كتب في الصخور أن يومًا ما سيولد فتى يرى الخطر قبل أن يقع… ويعيد توازن القبيلة."
لم يفهم ريان ما المقصود، لكنه شعر بقوة تدفعه نحو اكتشاف سرّ الكهف. ومع أول ضوء للفجر، تسلل وحده دون علم أحد.
داخل الكهف… حيث تختبئ الحقيقة
كان الكهف مظلمًا وباردًا، لكن الشعلة الغريبة التي رآها الليلة الماضية كانت لا تزال هناك، تُضيء الجدران بألوان غير مألوفة. اقترب ريان منها بحذر، فوجد أمامه صخرة منقوشة عليها صور وأشكال لا تشبه نقوش القبائل الأخرى.
كانت الرسومات تظهر بشرًا يحملون أدوات غريبة، ويشعلون نارًا من حجرٍ أزرق، ويبنون شيئًا يبدو كبرج ضخم. وفي وسط الرسومات، كان هناك رمز دائري يشبه الشمس، لكنه مختلف… وكأنه بوابة.
لامس ريان النقش بيده، وفجأة ارتجف الكهف وظهر أمامه كائن ضخم مغطى بالفراء، بعينين زرقاوين لامعتين. لم يكن وحشًا… بل ظلّ شفاف، أشبه بروح قديمة.
قال الكائن بصوتٍ عميق:
"أنا هيجار… آخر حامي للمعرفة. أنت المختار لحمل سِجِلّ النار، فالعصر الحجري ليس كما تراه. هناك قوة تبحث عن تدمير كل ما بدأتم ببنائه."
ارتعد قلب ريان وسأل:
— "أي قوة؟ من يريد تدميرنا؟"
— "المتوحشون… قبيلة الظلال، أعداؤكم منذ آلاف السنين. يبحثون عن الحجر الأزرق، حجر النار، السرّ الذي دفع البشرية إلى التطور الأول. إن سقط هذا الحجر في أيديهم… سيعمّ الظلام على واديكم بالكامل."
ثم اختفى الصوت كما ظهر، وترك خلفه حجرًا صغيرًا يلمع كأنه قطعة من السماء.
بداية الرحلة… نحو أرض الظلال
عاد ريان إلى القبيلة وهو يحمل الحجر الأزرق، لكن قبل أن يصل سمع صرخات. وجد الناس يركضون مذعورين… النار في الأكواخ، وصوت طبول الحرب يصمّ الآذان.
هاجمت قبيلة الظلال القرية فجأة. رجال ضخام مغطون بالوشوم السوداء وبأسلحة حجرية قاتلة. قاوم رجال القبيلة، لكن قوة العدو كانت أعظم مما توقعوا.
بحث ريان عن شيخ القبيلة فوجده يلفظ أنفاسه الأخيرة وقال له:
"احمِ الحجر… فهو منقذ البشر. لا تدع الظلال تحصل عليه…"
ثم سقط جسده بلا حراك.
اشتعل قلب ريان غضبًا وخوفًا، لكنه أدرك أن عليه أن يتحرك. هرب إلى الغابة مع مجموعة صغيرة من الشباب: مارا الشجاعة، وتالان الصياد، وهارون الحكيم.
طريق النجاة… ومفاجآت الغابة
دخل الأربعة أعماق الغابة، حيث الأشجار العملاقة تصنع سقفًا من الظلال. لم يكن الطريق سهلًا؛ فالغابة مليئة بالمفترسات. وفي أحد الليالي هاجمهم نمر ذو أنياب طويلة. استعدوا للقتال، لكن ريان شعر بقوة الحجر الأزرق تهتز في جيبه، فرفع يده نحو النمر… وإذا بوميضٍ من الضوء يشعل الهواء، فهرب الحيوان مذعورًا.
نظر رفاقه إليه بدهشة، وقالت مارا:
"هذا ليس حجرًا عاديًا… ماذا أخفيت عنا؟"
حكى لهم ريان كل ما رآه في الكهف، وكل ما قاله حامي المعرفة. ورغم خوفهم، أدركوا أن مهمتهم أصبحت أكبر بكثير من مجرد الهرب.
الوصول إلى وادي الظلال… الحقيقة الصادمة
بعد أيام طويلة من السير، وصلوا إلى أرض قبيلة الظلال. كانت قرية ضخمة مبنية على جرف صخري، محاطة بعظام الحيوانات الضارية وكأنها أسوار. وفي قلب الوادي كانت هناك منصة عالية فوقها تمثال كبير يشبه الرجل الأول.
رأوا زعيم الظلال يرفع صخرة زرقاء تشبه صخرة ريان، ويصرخ وسط رجاله:
"اليوم نعيد إشعال نار الأسلاف… ونحكم الأرض!"
أدرك ريان أن الظلال يمتلكون نصف القوة فقط، والنصف الآخر بحوزته. وإذا اقترب الحجران من بعضهما… ستنطلق قوة قد تدمر كل شيء.
المواجهة الكبرى… بين الإنسان والظلام
تسلل ريان ورفاقه إلى المنصة. وعندما اقتربوا، شعر الحجر الأزرق يزداد حرارة، وكأن قوة خفية تدفعه نحو الحجر الآخر.
صرخ الزعيم:
"لقد جاء الوريث الأخير لسِجِلّ النار!"
ثم بدأ هجومٌ شرس. اشتعلت المعركة بين الفريقين، وارتجّت الصخور تحت أقدامهم. استخدمت مارا رماحها ببراعة، وقاتل تاهلان من فوق الأشجار، بينما هارون أربك الأعداء بحيل ذكية.
أما ريان فلم يكن أمامه سوى خطوة واحدة… وضع الحجر الأزرق بجانب حجر الظلال.
لكنّ حامي المعرفة الذي ظهر له في الكهف قال:
"إن اتّحد الحجران على يد أهل النور… عاد الخير. وإن اتحدا على يد الظلام… انتهى كل شيء."
رفع ريان الحجر وهو يواجه زعيم الظلال وجهًا لوجه، وصاح بكل قوته:
"هذه الأرض لنا جميعًا… ولن يكون الحجر قوة للقتل!"
ثم ضرب الحجرين ببعضهما.
فانفجر نور هائل ملأ السماء، حتى إن الجبال اهتزت، وسقط كل رجال الظلال مغشيّين. أما زعيمهم فاختفى وسط العاصفة وكأنه تبخر.
العودة… وبداية عصر جديد
عاد ريان ورفاقه إلى قبيلتهم المنهارة، لكن الحجرين بعد اتحادهما تحولا إلى شعلة صغيرة لا تنطفئ. استطاعوا بفضلها إشعال النار في القرية بسهولة، وصنع الأدوات، وبناء البيوت من جديد.
وعندما اجتمع الناس حول ريان قال لهم:
"لن نعيش بعد اليوم خائفين. هذا عصر جديد… عصر المعرفة."
وأصبح ريان أول قائد يوحد القبائل في المنطقة، ويبدأ مرحلة جديدة من التطور البشري… مرحلة تجمع بين القوة والعقل، بين الماضي والمستقبل، بين الإنسان والأسلاف.
وبقيت سِجِلّ النار رمزًا لأول خطوة نحو الحضارة…
ذلك السرّ الذي وُلد في العصر الحجري، لكنه كان بوابة إلى مستقبل البشر.