الجزء الثاني من قصة نضال الدمشقي
بعد مرور أعوام على رحلة نضال الدمشقي إلى حلب، التي غيّرت مجرى الأحداث وأسهمت في توحيد جيوش صلاح الدين قبل معركة حطين، أصبح الفتى آنذاك أحد أهم كتّاب الديوان.
لكن التاريخ لم يتوقف عند ذلك الحد، بل كانت تنتظره مهمة جديدة، أكثر خطرًا، وأكثر غموضًا… مهمة كشفت سرًا ظلّ مخفيًا لعقود.
التمهيد: رسائل تتجاوز حدود الممالك
كبر نضال، وتجاوز السابعة عشرة، وأصبح خطه مثالًا للدقة والجمال. صار المسؤول الأول عن الرسائل السرية التي تُرسل إلى ولاة المدن وقادة الجيوش.
وفي أحد الأيام، وخلال اجتماع في ديوان القلعة، نقل كبير الكتّاب إليه خبرًا لم يكن يتوقعه:
"يا نضال… إحدى رسائل السلطان التي أُرسلت إلى والي بعلبك فُقدت. اختفت تمامًا."
لم تكن رسالة عادية، بل كانت تحمل أوامر حساسة تتعلق بتحرك قوات العدو وخطط الدفاع.
لو سقطت في أيدٍ معادية، فقد تتعرض الشام لخطر كبير.
بداية المهمة: أثر مجهول
كلّفه السلطان شخصيًا بالتحقيق ومتابعة مسار الرسالة المفقودة.
كان عليه أن يتجه أولًا إلى بعلبك، ثم يعبر طريق البقاع، ويتتبع آخر مكان شوهد فيه رسول السلطان.
قبل الرحيل، قال له صلاح الدين:
"هذه المهمة لا تحتاج قوة سيف، بل قوة عقل وحكمة. ابحث عن الحقيقة ولا تتعجل."
أحس نضال بثقل المسؤولية، لكنه تذكر رحلته الأولى، حين واجه المخاطر وحيدًا.
كان الآن أكثر خبرة، لكن التهديد هذه المرة كان أشد خطورة.
في بعلبك: المدينة المحصنة
وصل نضال إلى بعلبك بعد رحلة طويلة عبر الجبال. استقبله والي المدينة الذي أخبره بأن الرسول الذي كان يحمل الرسالة لم يصل قط.
آخر مرة شوهد فيها كان في قرية صغيرة بين حمص وبعلبك.
بدأ نضال يبحث ويسأل التجار والقرويين.
إلى أن قال له شيخ كبير في السن:
"رأيت رجلًا غريبًا سقط عن حصانه قرب الوادي. بدا عليه الإرهاق، ثم اختفى فجأة."
كان هذا الرجل هو رسول السلطان بلا شك.
الوادي المظلم
اتّجه نضال إلى الوادي الذي ذكره الشيخ.
كان المكان موحشًا، تكسوه الأشجار المتشابكة، وصوت المياه ينساب بين الصخور بانسياب خافت يثير القلق.
وبينما كان يتفقد المكان، لمح شيئًا لامعًا بين الأعشاب.
انحنى والتقط خاتم الرسول، وهو خاتم يستخدمه كتّاب الديوان لإثبات هويتهم.
قال في نفسه:
“لا بد أن الرجل تعرّض لكمين.”
تابع البحث حتى وجد أثر أقدام متعددة، وبعضها يشير إلى أن مجموعة من الرجال كانت تلاحق الرسول.
القرية المنسية
قادته الآثار إلى قرية صغيرة عند سفح الجبل. القرية صامتة، خالية من الحركة بشكل غير طبيعي.
طرق باب أحد المنازل، فخرجت امرأة عجوز وقالت بصوت مرتجف:
"نعم… كان هناك رجال مسلحون. أخذوا رجلاً قبل أسبوع. قالوا إنه جاسوس."
أدرك نضال أن الرسالة بيد جماعة مجهولة.
سأل العجوز:
"إلى أين أخذوه؟"
أشارت نحو طريق جبلي يؤدي إلى حصن مهجور.
الحصن القديم… والفخ
وصل نضال إلى الحصن عند الغروب. المكان خالٍ إلا من حارس واحد يجلس أمام الباب.
اقترب نضال بحذر، وادّعى أنه مسافر يبحث عن مأوى.
سمح له الحارس بالدخول دون شك.
في الداخل، رأى آثار نيران حديثة، وبعض الأوراق الممزقة على الأرض.
بحث بدقة حتى وجد قطعة من الرسالة المفقودة، ممزقة لكنها تحمل خطه هو!
فقد كان هو من كتب الرسالة الأصلية قبل أن تُرسل.
لكن فجأة سمع صوت خطوات تقترب.
اختبأ خلف أحد الأعمدة، فدخل رجلان يتحدثان:
"لقد وجد قائدنا الرسالة… سيستخدمها لمعرفة خطط صلاح الدين. سنرسلها غدًا إلى الصليبيين."
تجمّد الدم في عروق نضال. كانت الرسالة ستصل إلى أعداء الأمة!
خطّة الهروب
انتظر الرجلين حتى خرجا، ثم أسرع يفتش المكان بحثًا عن الرسالة الكاملة.
وجد صندوقًا صغيرًا مغلقًا بقفل حديدي، وباستخدام إحدى القطع المعدنية، تمكن من كسره بهدوء.
كانت الرسالة بداخله… كاملة كما كتبها.
لكن قبل أن يغادر، سمع صوت صفّارة إنذار خافتة. اكتشف الرجال وجوده.
صرخ أحدهم:
"أمسكوا به! إنه من ديوان السلطان!"
هرب نضال نحو السطح، ثم قفز من فتحة صغيرة تؤدي إلى خارج الحصن.
جرت خلفه مجموعة من الرجال، لكن الظلام ساعده على الهرب.
العودة إلى دمشق
عاد نضال إلى دمشق مرهقًا، لكنه كان يحمل الرسالة بيده.
وعندما سلّمها بسبب قلبه إلى صلاح الدين، قال السلطان وقد بدا عليه الارتياح:
"لقد أنقذت الشام من كارثة يا نضال. لو وصلت هذه الرسالة إلى العدو، لتغيرت موازين الحرب."
ثم أضاف بابتسامة فخر:
"لقد أثبتّ أن القلم قد يكون أخطر من السيف."
تكريم يستحقه
أمر السلطان بمنحه لقب "أمين سرّ الرسائل"، وهو أعلى منصب يمكن أن يصل إليه كاتب شاب.
وصارت القصة تُروى بين الكتّاب، ويشار إليه بفخر كبير، باعتباره الرجل الذي أنقذ أهم رسالة في تاريخ الدولة الأيوبية.
الخاتمة: سلسلة من البطولات الخفية
لم تذكر كتب التاريخ الكثير عن الرسائل المفقودة أو عن الكتّاب الذين يقفون خلفها.
لكن قصة نضال الدمشقي تظل شاهدًا على أن التاريخ لا يصنعه القادة وحدهم، بل يصنعه أيضًا أولئك الذين يعملون في الظل، في صمت وإخلاص.
وهكذا أصبحت رحلة البحث عن الرسالة المفقودة فصلًا جديدًا في حياة الفتى الذي بدأ قصته طفلًا بسيطًا في دمشق، وانتهى به المطاف ليكون واحدًا من أكثر الرجال تأثيرًا في بلاط صلاح الدين.