أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

اخر التدوينات

 الجزء الأول: بوابة قرطبة



الفصل الأول: صدى الماضي

في عام 1236 ميلادية، كانت مدينة قرطبة تعيش أيامها الأخيرة تحت الحكم الإسلامي. الشوارع التي كانت يوماً تعج بالعلماء والتجار، باتت تهمس بأنباء الحصار القادم. في قلب هذه المدينة العريقة، كان يعيش الفتى يوسف بن عمر، ابن الخطاط الشهير الذي أمضى حياته في نسخ المخطوطات النفيسة.

كانت الشمس تميل نحو المغيب حين دخل يوسف إلى مكتبة أبيه، حيث رائحة الحبر والورق العتيق تملأ المكان. جلس الشيخ عمر بن أحمد منحنياً فوق مخطوطة قديمة، يده ترتجف قليلاً وهو يتتبع الكلمات بأصابعه.

"أبي، لماذا تقرأ هذه المخطوطة مراراً؟" سأل يوسف بفضول.

رفع الشيخ عمر نظره، وفي عينيه بريق غريب لم يعتد يوسف رؤيته.

"يا بني، هذه ليست مجرد مخطوطة. إنها خارطة تاريخية لأعظم كنز علمي عرفته الأندلس. كنز لا يُقدر بثمن، يحوي من العلوم والمعارف ما يمكن أن يغير مجرى التاريخ."

اتسعت عينا يوسف دهشة. كان فتى في السابعة عشرة من عمره، نحيل البنية، حاد الذكاء، ورث عن أبيه حب العلم والمعرفة.

"كنز؟ أي كنز هذا يا أبي؟"

تنهد الشيخ عمر بعمق، ثم أشار إلى يوسف أن يجلس بجانبه.

"قبل مائة وخمسين عاماً، في عهد الحكم المستنصر بالله، كانت قرطبة منارة العلم في العالم. كانت مكتبتها تحوي أربعمائة ألف مجلد، يأتي إليها طلاب العلم من كل أصقاع الدنيا. لكن عندما بدأت الفتن والحروب تمزق الأندلس، قرر كبار العلماء آنذاك إخفاء أثمن ما لديهم."

أخذ الشيخ عمر نفساً عميقاً قبل أن يكمل.

"جمعوا مخطوطات نادرة في الطب والفلك والرياضيات والفلسفة، كتباً لا مثيل لها في الوجود. أخفوها في مكان سري، وتركوا خارطة مشفرة لموقعها. هذه الخارطة انتقلت عبر الأجيال بين الخطاطين الموثوقين، وها هي الآن بين يدي."

شعر يوسف بقشعريرة تسري في جسده. نظر إلى المخطوطة بعينين مختلفتين، محاولاً فك شفرة الرموز الغريبة المنقوشة عليها.

"لماذا تخبرني بهذا الآن يا أبي؟"

أمسك الشيخ عمر بيد ابنه بحرارة.

"لأن قرطبة على وشك السقوط يا بني. جيوش الملك فرناندو الثالث تحاصرنا من كل جانب. إذا سقطت المدينة، فسيضيع هذا الكنز إلى الأبد. قد يحرق، أو ينهب، أو يتلف. لا يمكننا أن ندع قروناً من العلم تذهب هباءً."

"ماذا تريدني أن أفعل؟"

نظر الشيخ عمر إلى ابنه بحزم.

"أريدك أن تجد هذا الكنز قبل سقوط المدينة. أريدك أن تحفظه، وأن تنقله إلى مكان آمن. هذه مسؤولية عظيمة يا يوسف، لكنني أعلم أنك قادر عليها."


الفصل الثاني: الخارطة المشفرة

في تلك الليلة، لم يستطع يوسف النوم. جلس في حجرته الصغيرة، يدرس المخطوطة على ضوء المصباح الزيتي. كانت مليئة برموز هندسية معقدة، وأبيات شعرية غامضة، وإشارات إلى معالم قرطبة القديمة.

كان أول ما لفت انتباهه بيتاً شعرياً مكتوباً بخط جميل:

"حيث تلتقي المياه بالنور الأزلي وتنحني الأقواس لسر الخالق هناك يكمن باب المعرفة الأولى تحت ظل الذي يصلي ولا ينطق"

حك يوسف رأسه محاولاً فهم المعنى. "حيث تلتقي المياه بالنور"... ماذا يعني ذلك؟

فجأة، طرق أحدهم الباب بعنف. قفز يوسف مذعوراً، مخبئاً المخطوطة بسرعة تحت وسادته.

"من؟" سأل بصوت مرتجف.

"أنا ليلى، افتح بسرعة!"

تنفس يوسف الصعداء. كانت ليلى ابنة عمه، وصديقة طفولته. فتاة ذكية وشجاعة، تجيد القراءة والكتابة رغم أن ذلك كان نادراً بين النساء آنذاك.

فتح لها الباب، فاندفعت داخلة بوجه شاحب.

"يوسف، هناك خبر سيئ. جنود الحامية يقولون إن الملك فرناندو أرسل مبعوثاً يطالب بتسليم المدينة خلال شهر واحد، وإلا سيشن هجوماً شاملاً."

شهق يوسف. شهر واحد فقط! كان الوقت يداهمه.

لاحظت ليلى القلق على وجهه.

"ماذا يحدث يا يوسف؟ أخبرني."

تردد يوسف للحظة، ثم قرر أن يثق بها. أخرج المخطوطة وحكى لها ما أخبره به أبوه.

استمعت ليلى باهتمام شديد، ثم أخذت المخطوطة وبدأت تدرسها.

"أعرف ما يعنيه هذا البيت الشعري!" قالت فجأة.

نظر إليها يوسف بدهشة.

"كيف؟"

ابتسمت ليلى.

"جدتي كانت تحكي لي قصصاً عن قرطبة القديمة. 'حيث تلتقي المياه بالنور الأزلي' يشير إلى المسجد الجامع! هناك نافورة في صحن المسجد، وعندما تشرق الشمس من الشرق، ينعكس ضوؤها على الماء بطريقة خاصة."

قفز قلب يوسف فرحاً.

"و'الأقواس التي تنحني'؟"

"أقواس المسجد الشهيرة! أما 'الذي يصلي ولا ينطق' فأظنه يشير إلى تمثال أو نقش في المسجد."

نظر يوسف إلى ليلى بإعجاب.

"علينا أن نذهب إلى المسجد عند الفجر، عندما تشرق الشمس."


الفصل الثالث: أسرار المسجد الجامع

قبل أن يطلع الفجر بقليل، تسلل يوسف وليلى إلى المسجد الجامع. كان المكان هادئاً، مضاءً بقناديل خافتة تلقي ظلالاً راقصة على الأعمدة الرخامية.

وقفا في صحن المسجد، ينتظران شروق الشمس. كانت النافورة أمامهما، ماؤها يتدفق بهدوء في حوضها الثماني الأضلاع.

عندما بزغت أولى خيوط الفجر، حدث شيء مذهل. انعكست أشعة الشمس على سطح الماء، مرتدة نحو أحد الأقواس بزاوية محددة، مضيئة نقشاً هندسياً على الجدار لم يكن واضحاً من قبل.

اقترب يوسف من النقش بحذر. كان عبارة عن نجمة ثمانية الأطراف، في مركزها رمز غريب يشبه مفتاحاً.

"انظري ليلى! هذا النقش لا يظهر إلا في هذا الوقت بالتحديد من اليوم."

فحصت ليلى النقش بدقة، ثم نظرت حولها.

"يوسف، الرمز يشير إلى الأسفل. ربما هناك شيء تحت أرضية المسجد."

بدأ يوسف يفحص البلاط القريب من النقش. كان معظمه من الرخام الصلب، لكن إحدى البلاطات بدت مختلفة قليلاً، وكأنها أحدث من غيرها.

ضغط عليها بقوة، فسمع صوت طقطقة خفيفة. تحركت البلاطة قليلاً، كاشفة عن حلقة حديدية صغيرة مخبأة تحتها.

نظر يوسف وليلى إلى بعضهما بعينين متسعتين. سحب يوسف الحلقة، فانفتحت فتحة صغيرة في الأرض، تكشف عن درج حجري يهبط إلى الظلام.

"أهذا هو؟" همست ليلى.

"لا أعلم، لكن علينا أن نكتشف."


الفصل الرابع: ممرات الأسرار

أشعل يوسف مصباحاً زيتياً كان يحمله، ثم بدأ الهبوط على الدرج الحجري ببطء، وليلى خلفه. كان الهواء رطباً وبارداً، ورائحة العفن تملأ المكان.

بعد عشرين درجة تقريباً، وصلا إلى ممر ضيق منحوت في الصخر. على الجدران، كانت هناك كتابات كوفية قديمة، وزخارف هندسية معقدة.

"هذا المكان قديم جداً"، قالت ليلى بصوت خافت. "ربما يعود إلى عهد عبد الرحمن الناصر."

ساروا في الممر لعدة دقائق، حتى وصلوا إلى تفرع ثلاثي. ثلاثة ممرات تتجه في اتجاهات مختلفة.

أخرج يوسف المخطوطة ودرس الرموز مجدداً. كان هناك رسم لمتاهة، مع إشارات غامضة.

"يجب أن نختار الممر الأوسط"، قال بثقة. "الرمز هنا يشير إلى 'طريق التوازن'."

لكن عندما اقتربوا من الممر الأوسط، سمعوا صوتاً. أصوات خطوات قادمة من خلفهم!

"أسرع! شخص ما يتبعنا!" همس يوسف.

ركضا في الممر الأوسط، والأصوات تقترب. كان قلب يوسف يدق بعنف. من يتبعهما؟ هل اكتشف أحد سرهما؟

فجأة، وجدا أنفسهما في غرفة صغيرة، لا مخرج منها سوى الطريق الذي أتيا منه. كانت الغرفة مليئة بنقوش غريبة على الجدران.

"إنها مصيدة!" قالت ليلى بذعر.

لكن يوسف لاحظ شيئاً. في وسط الغرفة، كانت هناك دائرة محفورة على الأرض، بداخلها رموز تشبه تلك الموجودة في المخطوطة.

"انتظري، هذه ليست مصيدة. إنها أحجية!"

ركع يوسف ودرس الرموز بتمعن. كانت عبارة عن أرقام عربية قديمة، مرتبة بشكل معين.

الخطوات اقتربت أكثر. لم يتبق لديهما سوى ثوانٍ معدودة.


الفصل الخامس: الباب السري

بيد مرتجفة، بدأ يوسف يضغط على الأرقام بترتيب معين، مستخدماً معرفته بالرياضيات التي علمه إياها أبوه. كان الترتيب يتبع متسلسلة فيبوناتشي الشهيرة.

فجأة، سمعا صوت آلية قديمة تتحرك. اهتز الجدار الغربي للغرفة، ثم انزاح ببطء، كاشفاً عن ممر آخر!

"بسرعة!" صاح يوسف.

انزلقا عبر الفتحة قبل أن يدخل من كان يتبعهما إلى الغرفة بثوانٍ. سمعا صوتاً يلعن بغضب، ثم محاولات يائسة لفتح الباب السري الذي أغلق خلفهما تلقائياً.

ركضا في الممر الجديد حتى تأكدا من أنهما في مأمن. توقفا يلتقطان أنفاسهما.

"من كان ذلك؟" سألت ليلى وهي تحاول التنفس.

"لا أعلم، لكن واضح أن هناك من يعرف بأمر الكنز غيرنا."

نظر يوسف حوله. كانا في ممر أوسع، وأفضل بناءً. على الجدران، كانت هناك مشاعل قديمة جافة. أشعل واحدة منها، فانتشر الضوء في المكان.

أمامهما، كان هناك باب خشبي ضخم، محفور عليه آيات قرآنية بخط كوفي رائع. وفي وسط الباب، كان هناك قفل معقد على شكل دائرة، مقسمة إلى اثني عشر قسماً، كل قسم يحمل رمزاً مختلفاً.

"هذا هو!" همس يوسف بانفعال. "هذا هو الباب الأخير!"

اقتربت ليلى من الباب، تفحص القفل.

"لكن كيف نفتحه؟ لا بد أن له شيفرة معينة."

عاد يوسف إلى المخطوطة. كان هناك رسم للدائرة نفسها، ومعها بيت شعري أخير:

"باثني عشر برجاً يدور الفلك وباثني عشر إماماً استقام الدين وباثني عشر شهراً اكتمل العام فاجمع الحكمة في دائرة الحق المبين"

جلس يوسف يفكر بعمق. الأبراج الاثنا عشر، الأئمة الاثنا عشر، الشهور الاثنا عشر... كلها ترمز للعدد اثني عشر.

نظر إلى الرموز على القفل. كل رمز يمثل شيئاً مختلفاً: برج فلكي، حرف عربي، رقم، شكل هندسي.

"أظن أنني فهمت!"، قال فجأة. "علينا أن نحرك الأقسام الاثني عشر بترتيب معين، يمثل دورة كاملة."

بدأ يحرك الأقسام واحداً تلو الآخر، مبتدئاً من الحمل (أول الأبراج)، مروراً بالشهور القمرية، ومنتهياً بدائرة كاملة ترمز للكمال.

عندما أدار القسم الأخير، سمعا صوتاً عميقاً. ثم ببطء شديد، بدأ الباب الضخم ينفتح، صارخاً من طول الإهمال.


يتبع في الجزء الثاني كنز العلماء


ملاحظات تاريخية

  • المسجد الجامع في قرطبة: بني في عهد عبد الرحمن الأول عام 785م، وتوسع عدة مرات حتى أصبح من أكبر المساجد في العالم.
  • سقوط قرطبة: سقطت المدينة فعلياً في يد الملك فرناندو الثالث ملك قشتالة في 29 يونيو 1236م.
  • مكتبة قرطبة: كانت من أعظم مكتبات العالم في عهد الحكم المستنصر بالله (961-976م)، وضمت مئات الآلاف من المخطوطات.
  • متسلسلة فيبوناتشي: عرفها العرب قبل فيبوناتشي بقرون، واستخدموها في الهندسة والرياضيات.

تعليقات